فصل: تفسير الآيات (19- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (19- 23):

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ} أي أهل سقاية. عن معاوية بن سلام عن زيد ابن أبي سلام عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد سقي الحاج، قال الآخر: لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت دخلت واستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه فقال: فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} إلى قوله: {القوم الظالمين}.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال: قال العباس بن عبد المطلب: لئن كنتم سبقتمونا بالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يعني: إن ذلك كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك. عطية العوفي قال: إن المشركين قالوا: إعمار بيت الله والقيام على السقاية خير ممّن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله وعُمّاره، فأنزل الله هذه الآية وأخبرهم أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لاتنفعهم عند الله مع الشرك، وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيّه خير مما هم عليه.
الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرضي: نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة، وذلك أنهم أفتخروا فقال طلحة: إنّ البيت بيدي مفاتيحه ولو أشاء بتُّ فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بتُّ في المسجد، وقال علي رضي الله عنه: لا أدري ما تقولون لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن سيرين ومرّة الهمداني عن ابن عباس أن علياً قال للعباس: ألا تهاجر وتلحق بالنبي؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ ألست أسقي حاج بيت الله واعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية.
وعندما أُمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار: وأنا صاحب الكعبة فلا نهاجر.
والسقاية مصدر كالرعاية والحماية، قال الضحّاك: السقاية بضم السين وهي لغة. وفي معنى الآية وجهان أحدهما أن يجعل الكلام مختصراً تقديره: أجعلتم سقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله، وهذا كما تقول: السخاء حاتم، والشعر زهير وقال الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ** ولكنما الفتيان كل فتى ندي

والوجه الآخر أن يجعل العمارة والسقاية بمعنى العامر والساقي تقديره: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله هدىً للمتقين، يدلّ عليه قراءة عبدالله بن الزبير وأبي وجزة السعدي: أجعلتم سُقّاء الحاج وعُمّار المسجد الحرام على جمع الساقي والعامر {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً» وقال الحسن: وكانت السقاية نبيذ زبيب.
{الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} من الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج {وأولئك هُمُ الفائزون} الناجون من النار {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} دائم {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها منزلة في قصة العباس وعلي قبل الهجرة، قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أمر الله عزّوجل المؤمنين بالهجرة وكانت قبل فتح مكة، من آمن ولم يكتمل إيمانه إلاّ بمجانبة الآباء والأقرباء إنْ كانوا كفاراً، فقال المسلمون: يانبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا أباءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخُربت دارنا، فأنزل الله هذه الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبنه وأخيه وامرأته وقرابته: إنّا قد أُمرنا بالهجرة إلى المدينة فاخرجوا معنا إليها فمنهم من يعجبه ذلك ويسارع إليه، ومنهم من أبى على صاحبه وتعلق به فيقول الرجل لهم: والله لئن ضمني وإياكم دار الهجرة فلا أنفعكم بشيء أبداً ولا أعطيكم ولا أُنفق عليكم، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده ويقولون: أُنشدك الله أن تضيعنا فيرق قلبه فيجلس ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدّوا عن الإسلام فنهى الله عز وجل عن ولايتهم فأنزل الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم، ومن المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام.
{إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} فهم في صورة الإسلام وأهله وفي المكث معهم على الهجرة والجهاد {فأولئك هُمُ الظالمون} العاصون الواضعون [.....] في غير موضعها.

.تفسير الآيات (24- 27):

{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
ثم قال: {قُلْ} يا محمد للمتخلّفين عن الهجرة والجهاد {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} وقرأ أبو رجاء ويعقوب وعشيراتكم بالألف على الجمع واختلف فيه عن عاصم {وَأَمْوَالٌ اقترفتموها} اكتسبتموها وقال قتادة: اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} وهو ضد النفاق وأصله البقاء. قال الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن ** وقد زادهن مقامي كسودا

{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} (تعجبكم) قال السدي: يعني القصور والمنازل {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} قال عطاء: بقضائه، وقال مجاهد ومقاتل: يعني فتح مكة {والله لاَ يَهْدِي} لا يُرشد ولا يوفّق {القوم الفاسقين} الخارجين من طاعته إلى معصيته.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} أيّها المؤمنون {فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي مشاهدوها أماكن حرب تستوطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} يعني وفي يوم حنين وهو واد بين مكة والطائف.
وقال عروة بن الزبير: هو واد إلى جنب ذي المجاز والحري، ولأنه اسم لمذكر فقد يترك إجزاؤه يراد به اسم البلدة التي هو بها، ومنه قول الشاعر:
نصروا نبيهم وشدّوا أزره ** بحنين يوم تواكل الابطال

وكانت قصة حنين على ما ذكره المفسّرون بروايات كثيرة لفّقتها ونسّقتها لتكون أقرب إلى الأفهام وأحسن [.....] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ثم خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر الفاً، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطائف.
قال قتادة، وقال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفاً وخمسمائة، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا [.......] وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف، وعلى هوازن ملك بن عوف النضري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تُغلب اليوم من قلّة»، ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل.
قال: فاقتتلوا قتالاً شديداً. فانهزم المشركون وخلوا من الذراري، ثم نادوا: ياحماة السوء اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون.
وقال قتادة: وذُكر لنا أن الطلقاء إنجفلوا يومئذ بالناس وسأل رجل البراء بن عازب: أفررتم يوم حنين؟ فقال: كانت هوازن رماة وإنّا لمّا حملنا عليهم وانكشفوا وأقبلنا على الغنائم، فاستقبلوا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس عنهم.
وقال الآخرون: لم يبق يومئذ مع النبي صلى الله عليه وسلم غير العباس بن عبد المطلب وعلي وأيمن بن أم أيمن، وقُتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار لا يألوا، وكانت بغلة شهباء أهداها له فروة الجدامي.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا العمري، حدّثنا أحمد بن محمد، حدّثنا الحمامي، حدّثنا شريك عن أبي إسحاق، «قيل للبراء: كان النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ولى دبره يوم حنين قال: والذي لا إله إلاّ هو ماولّى رسول الله دبره قط، لقد رأيناه وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب والعباس آخذ لجام الدابة، وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ناد يامعشر المهاجرين ويامعشر الأنصار وكان العباس رجلاً صويّتاً.
ويروى من شدة صوت العباس أنه أُغير يوماً على مكة فنادى: واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها.
فجعل ينادي: ياعباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا: يالبيك يالبيك يالبيك وجاؤوا عنقاً واحداً فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصابة من الأنصار فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يانبي الله لو عمدت إلى برك العماد من ذي يمن لكنّا معك، ثم أقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون، وتنادى الأنصار: يامعشر الأنصار أم قصرت الدعوة على بني الحرث والخزرج، فتنادوا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس، فأخذ بيده كفّاً من الحبِّ فرماهم وقال: شاهت الوجوه، ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة.»
.
قال: فوالله مازال أمرهم مدبراً وجدّهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى.
قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد يومئذ إلا وامتلأت عيناه من ذلك التراب، قال يزيد بن عامر وكان في المشركين يومئذ: فانصرفنا ما بقي منّا أحد، وكأن أعيننا عميت فأنجز الله وعده وأنزل نصره وجنده فقهر المشركين ونصر المسلمين، وقال سعيد بن جبير: أمدَّ الله المسلمين بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وقال الحسن: كانوا ثمانية آلاف من الملائكة.
قال عطاء: كانوا ستة عشر ألفاً، وقال سعيد بن المسيب: حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقّانا رجال بيض الوجوه، حسان الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانوا إياها، يعني الملائكة.
وفي الخبر «أن رجلاً من بني نضر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيها [.........]، وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الملائكة».

.تفسير الآيات (28- 33):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
{ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} قال الضحاك وأبو عبيدة: قذر، وقال ابن الأنباري: خبيث يقال: رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وأمرأتان نجس ورجال ونساء نُجُس بفتح النون والجيم أو نجُس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لايثنّى ولا يجمع لأنّه مصدر، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس، فإذا أُفرد قيل: نَجِس بفتح النون وكسر الجيم أو نجُس بضم الجيم.
وقرأ ابن السميقع: إنما المشركون أنجاس، كقولك أخباث على الجمع، واختلفوا في معنى النجس والسبب الذي من أجله سمّاهم بذلك، فروي عن ابن عباس: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه بقول الله تعالى {ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ}.
وكما روي عن الحسن أنه قال: لا تصافحوا المشركين. فمن صافحهم فليتوضّأ، وقال قتادة: سمّاهم نجساً لأنهم يجنبون ولايغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لاينبغي أن يدخل المسجد.
وقال الحسين بن الفضل: هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجساً على الذّم، يدلّ عليها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى حذيفة فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده، فقال حذيفة: يارسول الله إنّي جنب، فقال: «إن المؤمن لا ينجس».
{فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} قال أهل المعاني: أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام، قال عطاء الحرم كلّه قبلة ومسجد وتلا هذه الآية.
جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين، ونساؤهم حل لكم، وقرأ: {بعد عامهم هذا} يعني العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية.
قال المفسرون: وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتّجرون ويتبايعون، فلمّا منعوا من دخول الحرم شقّ ذلك على المسلمين، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم: من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير. فقال المؤمنون: يارسول الله قد كنّا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنّا الأسواق ويملك التجارة، ويذهب ما كنّا نصيب منها من المرافق، فأنزل الله عز وجل {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}.
وقال عمرو بن فايد: معناه وإذا خفتم؛ لأن القوم كانوا قد خافوا، وذلك هو قول القائل: إن كنت أبي فأكرمني يعني {إن خفت} عيلة فقراً وفاقة. يقال عال يعيل عيلة وعيولا. قال الشاعر:
فلا يدري الفقير متى غناه ** ولايدري الغني متى يعيل

وفي مصحف عبد الله: {وإن خفتم عايلة} أي (حصلة) يعول عليكم أي يشق {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وذلك أنه أنزل عليهم مطراً مدراراً فكثر خيرهم حين ذهب المشركون.
وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوّفون.
قال الكلبي: اخصبت [............]، وكفاهم الله ما أهمّهم، وقال الضحاك وقتادة: قسم الله منها ماهو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود واراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية فأنزل الله عز وجل: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر}.
{وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} أراد الدين الحق فأضاف الاسم إلى الصفة. قال قتادة: الحق هو الله عز وجل، ودينه الإسلام، وقال أبو عبيدة معناه: طاعة أهل الإسلام، وكل من أطاع ملكاً أو ذا سلطان فقد دان له ديناً. قال زهير:
لئن حللت بجو في بني أسد ** في دين عمرو وحالت بيننا فدك

أي في طاعة عمرو.
{مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني اليهود والنصارى يؤخذ منهم الجزية وألاّ يقاتلوا، ويؤخذ الجزية أيضاً من الصابئين والسامرة؛ لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فيها، ويؤخذ الجزية أيضاً من المجوس، وقد قيل: إنهم كانوا من أهل الكتاب فرفع كتابهم.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى و[.............] قالا: حدّثنا عثمان بن صالح، حدّثنا ابن وهب، أخبرنا يوسف عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وأن عمر أخذها من مجوس السواد وأن عثمان بن عفان أخذها من بربر.
ابن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا أبو عاصم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أدري كيف أصنع المجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب».
قال أبو عاصم: مشيت ميلاً وهرولت ميلاً حتى سمعت من جعفر بن محمد، حدّثنا، يعني هذا الحديث، وإنما منعنا من نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم وإتيان الفروج والاطعمة على الخطر، ولا يجوز الإقدام عليها بالشك.
قال الحسن: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة في شأن أهل الكتاب.
{قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} ألاّ يتبعوا ماسواهما بدعة وضلالة، ولايؤخذ الجزية من الأوثان {حتى يُعْطُواْ الجزية} وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه، والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعاً عنها.
وأما قدرها: فقال أنس: قسَّم النبي على كل محتلم ديناراً، وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهماً، وعلى الاوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهماً، ولم يجاوز به خمسين درهماً، وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه.
{عَن يَدٍ} أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه، كما يقال كلّمته فماً لفم.
وقال أبو عبيدة: يقال: أكلّ من [.............] من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد، وقال القتيبي: يقال: أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئاً غير مكلف.
وقال ابن عباس: هو أنها يعطونها بأيديهم، يمشون بها كارهين ولايجيئون بها ركباناً ولا يرسلون {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاّء مقهورون، قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة: معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم. قال الكلبي: إنه إذا جاء يعطي صفع في قفاه، وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار، وقيل: إنّه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة، وقيل: إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصَغَار.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر، حدّثنا علي بن حرب، حدّثنا السباط، حدّثنا عبد العزيز بن [............] عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى ابن عباس رجل فقال: الأرض من أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأودي خراجها؟ قال: لا، وجاء آخر فقال له ذلك قال: لا وتلا قوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}، أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينزعه فيجعله في عنقه؟
وقال كليب بن وائل: قلت لابن عمر: إشتريت أرضاً، قال: الشراء حسن. قال: فإنّي أعطي من كل جريب أرض درهما وقفيز طعام؟ قال: ولا تجعل في عنقك صغاراً.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ما يسرّني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها الصغار على نفسي.
{وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} الآية، روى سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله. فأنزل الله في قولهم: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله}، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي: عزيرٌ بالتنوين، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم.
وقرأ الباقون بغير تنوين، فمن نوّن قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجمياً مثل نوح ولوط وهود، وقال أبو حاتم والمبرّد: الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة، وربما أثبتوا التنوين في الصفة، ويقول الشاعر، أنشده الفرّاء:
والاّ تكن مال هناك فإنّه ** سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهل

وأنشد الكسائي [............] مذهبه.
وقال أبو عبيدة: هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك: زيد ابن الامير، وزيد بن عبد الله، فعزير يكون بعده خبر.
ومن ترك التنوين قال: لأنه اسم اعجمي ويشبه اسماً مصغراً.
وقال الفرّاء: لما كانت النون من عزير ساكنة (وهي نون التنوين) والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالاً لتحريكه، كما قال: لتجدني بالأمير براً، وبالقناة مدعاً مكراً، إذا غطيف السلمّي فرّا.
فحذف النون الساكن الذي استقبلها، وقال الزجّاج: يجوز أن يكون الخبر محذوفاً تقديره: عزير ابن الله معبودنا.
قال عبيدة بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال: إن الله فقير يستقرض.
عطية العوفي عن ابن عباس قال: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} فانما قالوا ذلك من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فأرسل الله عزّ وجل عليهم مرضاً فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير فمكثوا ماشاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير الله وابتَهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذّن في قومه فقال: ياقوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليَّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم، ثم إن التابوت تُرك بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أُتي عُزير هذا إلا إنّه ابن الله.
وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار: إنما قالت اليهود عزير ابن الله لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها، فلحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد في الجبال، ولا يخالَط ولا يُخالط الناس ولاينزل إلا يوم عيد، وجعل يبكي ويقول: يارب تركت بني إسرائيل غير عالم فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يامطعماه ياكاسياه.
فقال لها عزير: يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي، أما علمتِ أنّ الموت سبيل الناس، وقال: ويحك من كان يطعمكِ ويكسوكِ قبل هذا الرجل يعني زوجها الذي كانت تندبه قالت: الله، قال: فإن الله حي لم يمت، قالت: ياعزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله، قالت: فلم تبكي عليهم، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لايموت، فلمّا عرف عزير أنه قد خُصم ولّى مدبراً.
فقالت له: يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين، وتنبت شجرة فكلْ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلِّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه، فلمّا أصبح نبعت من مصلاّه عين، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به، فجاء شيخ فقال له: افتح، قال: ففتح فاه وألقى فيه شيئاً كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعاً كهيئة القوارير ثلاث مرات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك، قال: فدخلها فجعل لايرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة. فقال: يابني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة.
قالوا: ياعزير ماكنت كاذباً، فربط على كل اصبع له قلماً وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه، فأحيا لهم التوراة، وأحيا لهم السنّة، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه.
وقال الكلبي: إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاماً صغيراً فاستضعفوه، فلم يقبله ولم يدرِ أنه قرأ التوراة، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة، فبعث الله عز وجل عزيراً ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم، فأتاهم عزير وقال: أنا عزير فكذّبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم عزير فاتلُ علينا التوراة، فكتبها وقال: هذه التوراة.
ثم إن رجلاً قال: إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت لنبي ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفاً ولا آية فعجبوا وقالوا: ابن الله، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه، فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.
وأما النصارى فقيل: إنّهم كانوا على دين واحد سنة بعدما رُفع عيسى، يصلّون القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار، وكان لها فرس يقال له: العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب.
فقال له النصارى: مَن أنت؟ قال يونس: عدوكم سمعت من السماء: ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتاً سنة لايخرج منه ليلاً ولا نهاراً حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال لهم إن الله قبل توبتك، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولابجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله، وعلَّم ذلك رجلاً يقال له: يعقوب.
ثم دعا رجلاً يقال له: ملكاً وقال له: إن الله لم يزل ولا يزال عيسى عليه السلام، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً، وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غداً أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث.
{ذلك} يعني قول النصارى: إن المسيح ابن الله {قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} يقولون بألسنتهم من غير علم.
قال أهل المعاني: إن الله عز وجل لايذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زوراً كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}
[آل عمران: 167]، و{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]، وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] {يُضَاهِئُونَ} قال ابن عباس: يُشبهون وعنه أيضاً: يحكون، وقال مجاهد: يواطئون.
وقال ذي نون: وفيه لفضان يضاهئون بالهمزة وهي قراءة عاصم، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد {قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} قال قتادة والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقال النصارى: المسيح ابن الله كما قال اليهود: عزير بن الله، وقال مجاهد: يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله، وقال الحسن: شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأُمم الكافرة، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم، {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ} [البقرة: 118]، ثم قال: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] وقال القيتبي: يريد إن مَن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم.
{قَاتَلَهُمُ الله} قال ابن عباس: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن، ومثله قال أبان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وقال ابن جريج: قاتلهم الله وهو بمعنى التعجب {أنى يُؤْفَكُونَ} أي يكذبون، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} قال الضحاك: علماءهم، وقرأ: رهبان، وأحبار العلماء: واحدهم حَبر وحِبر بكسر الحاء وفتحها والكسر أجود، وكان يونس الجرمي يزعم أنه لم يسمع فيه إلا بكسر الحاء، ويحتج فيه بقول الناس: هذا محبر يريدون مداد عالم، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأهل الأصفاد في دينهم، يقال: راهب ورهبان مثل فارس وفرسان، وأصله من الرّهبة وهي الخوف كأنهم يخافون الله {أَرْبَاباً} سادة {مِّن دُونِ الله} يطيعونهم في معاصي الله.
مصعب بن سعد عن «عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتصب وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} من دون الله حتى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون حلال الله فتحرّمونه، ويحلّون ماحرّم الله فتحلّونه، قال: فقلت: بلى».
قال أبو الأحوص: عن عطاء بن أبي البختري في قول الله عز وجل: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} قال: أما لو أمروهم أن يعبُدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنّهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية.
وقال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني اسرائيل؟ قال: إنهم وجدوا في كتاب الله عز وجل ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا بشيء ائتمرنا ومانُهينا عنه فانتهينا، الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وقال أهل المعاني: معناه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأذناب حيث أطاعوهم في كل شيء، كقوله: {قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} [الكهف: 96] أي كالنار، وقال عبد الله المبارك:
وهل بدّل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها.
{وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ} نزّه نفسه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} القراءة بالياء وقرأ ابن أبي إسحاق بالتاء {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يبطلوا دين الله بألسنتهم، بتكذيبهم إياه وإعراضهم عنه.
وقال الكلبي: يعني يردون القرآن بألسنتهم تكذيباً له، وقال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى أن يلزموا توحيد الرحمن بالمخلوقين الذين لا تليق بهم الربوبية، وقال الضحاك: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه ولايعبد الله بالاسلام.
{ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي يُعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} وإنما أدخلت إلا لأن في أبت طرفاً من الجحد، ألا ترى أنّ قولك يثبت أن أفعل ولما فيه من الحذف تقديره: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره، كما قال:
وهل لي أُمّ غيرها أن تركتها ** أبى الله إلاّ أن أكون لها إبنا

هو الذي يعني يأبى إلاّ إتمام دينه {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {بالهدى} قال ابن عباس: بالقرآن، وقيل: تبيان فرائضه على خلقه، {ودين الحق} وهو الإسلام.
{ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي يُعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله ولو كره الكافرون {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه وينصره ويظفره {عَلَى الدين كُلِّهِ} على سائر الملل كلها {وَلَوْ كَرِهَ المشركون}.
واختلف العلماء بمعنى هذه الآية، فقال ابن عباس: الهاء عائدة على الرسول صلى الله عليه وسلم يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لايخفى عليه منها شيء، وقال الآخرون: الهاء راجعة إلى دين الحق.
قال أبو هريرة والضحاك: ذلك عند خروج عيسى عليه السلام إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى المسلمين.
قال السدّي: وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج.
وقال الكلبي: لايبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك، ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك.
قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لايبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز وإما بذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزّوا، وإما يذلّهم فيدينون له».
عن الأسود أو سويد بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى».
قالت: قلت: يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله على رسوله. {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق}. قال: يكون ذلك ماشاء الله عز وجل، ثم يبعث ريحاً فيقبض كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يبقي من لا خير فيه ويرجع الناس إلى دين آبائهم.
وقال الحسين بن الفضل: معناه: ليظهره على الأديان كلها بالحجج الواضحة والبراهين اللامعة فيكون حجة هذا الدين أقوى، وقال بعضهم: قد فعل الله ذلك ونُجزت هذه العدة لقوله سبحانه {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وقال بعضهم: هو أن يظهر الإسلام في كل موضع كان يجري على أهلها صَغَار في أي موضع كانوا، لايؤخذ منهم جزية كما يؤخذ من أهل الذمة.
وقيل: معناه: ليظهره على الاديان كلها التي في جزيرة العرب فيظهره على دينهم ويغلبهم في ذلك المكان.
وقيل: هو جريان حكمته عليهم والله أعلم.